منذ فترة طويلة يدور في ذهني معنى كنتُ أرجو أن يكون حقيقة، لأنه لا يدور في ذهني فحسب بل هو تجربة شخصية أعيشها كل يوم، إنني أجدني أتعرض يوماً بعد يوم لحشد هائل من المعارف والمواقف يؤكد ذلك المعنى ويثبته..
أطالع الكتب والأخبار فأجد هذا المعنى ظاهراً جلياً مؤكداً، إنه “تأثير اللغة العربية في النفس الإنسانية” نعم لها تأثير عجيب مُلاحظ.
ذات يوم كنت أتلو القرآن فوقفتُ عند قوله تعالى: “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ ربهم..” إلى قوله تعالى: “قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ”.
هنا تنبهت ولأول مرة إلى الربط بين عروبة القرآن (أي: كونه باللغة العربية) وبين التقوى، وكيف أن عروبة القرآن أحد أسباب حصول التقوى..
ثم هأنذا أُلاحِظ هذا الربط وقد تكرر في عدد من المواضع في القرآن الكريم، ففي يوسف “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” وفي الزخرف “إِنَّا جَعَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” وفي الأحقاف “وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ” وغير ذلك من الآيات في هذا السياق..
حتى أخذني الفضول للقراءة في تفسير هذه الآيات، ورجوتُ أن يكون المعنى الظاهر المعروف الذي انقدح في ذهني صحيحاً، ثم وجدت تعليق الأئمة المفسرين على هذه الآيات وأمثالهن كالتالي:
- “وَذَلِكَ لِأَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَبْيَنُهَا وَأَوْسَعُهَا، وَأَكْثَرُهَا تَأْدِيَةً لِلْمَعَانِي الَّتِي تَقُومُ بِالنُّفُوسِ” (تفسير ابن كثير)
- “وهو أيضاً ثناءٌ على القرآن من حيث إنه كلام باستقامة ألفاظه لأن اللغة العربية أفصح لغات البشر” (التحرير والتنوير لابن عاشور)
- “أنزله باللسان العربي، أشرف الألسنة، وأبينها، المبين لكل ما يحتاجه الناس من الحقائق النافعة” (تفسير السعدي)
والحقيقة أن قول ابن كثير “وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس” أبلغ تعليق في هذا المعنى، لكنّ التعليقات والإشارات الأخرى لا تخلو من إصابة جهة من المعنى..
ثم وقعتُ على عدد من الأحاديث والآثار والمرويات التي تبرهن على صحة المعنى وتؤكده تأكيداً واضحاً لا يحتمل وجهاً آخر غير المعنى المقصود، ولست هنا في مقام ذكر ما قد يطول ذكره..
إذن لقد صار ما رجوت حقيقة، أو بعبارة أدق هي حقيقة كنتُ أجهلها..
لقد صار بإمكاني أن أقول الآن إنَّ هذه اللغة تصنع صنعها في النفوس، فترفع الهمم، وتقوّم الأخلاق، وتثبّت القِيّم وترقق الطبع، وتسقي المروءات، وتُزين العقل، وتُعلّم الحكمة، وتهذب السمت، وتبني الشخصية، وتستخرج لآلِئ الخير ومكامن الجمال، وقبل هذا كله فهي تُعمّق الإيمان، وتسكن الوجدان..
إنَّ لغةً ذات بيانٍ وبلاغة وفصاحة يُنزل اللهُ بها كتابه ويتكلم بها رسولُه ويتحدث بها السابقون الأولون من هذه الأمة، الذين هم خير الناس قاطبة، لهي لغةٌ جديرة بالحب والاستخدام في شتى مجالات الحياة..
فأعطها من نفسك قدر ما تحتاج من جمالها
واعلم أن: “معرفة هذا اللسان من الدين وأقرب إلى إقامة شعائر الدين”. (مجموع الفتاوى – ابن تيمية).
نعم من الدين وأقرب إلى إقامة شعائر الدين.